الوطنية الإسلامية

الوطنية الإسلامية

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا به النعمة وجعلنا من خير أمة فله الحمد والمنة وأشهد أن لا الاه إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير دعانا إلى الوحدة والتوحيد فقال سبحانه (ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) وأشهد أن سيدنا محمدا عبده المصطفى ورسوله المرتضى أرسله الحق بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فبلغ رسالته أتم البلاغ وأكمله وجاهد فى سبيل مرضات ربه حق جهاده قدوة للصادقين حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وآله وصحابته وسلم تسليما كثيرا. أما بعد.

فمن الأهمية بمكان تحرير المصطلحات الحديثة لفهم حقيقة المراد منها ومن ثم معرفة مكانها من ديننا العظيم الحبيب ومن تلك المصطلحات الوطنية فما معناها المراد بها عند المنادين بها والداعين إليها؟ وما هو موقف ديننا منها أيقر بها أم ينكرها؟ حول الإجابة على هذين السؤالين تدور كلمات هذا المقال ومن الله  الهدى والسداد  الوطنية – كما جاء تعريفها  في موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة (بتصرف )- هي نسبة إلى الوطن: أي الأرض التي يعيش عليها مجموعة من الناس وقد ظهرت كمذهب فكرى بعد ظهور القومية كرافد من روافد القومية يقصد بها أن يقدس كل إنسان وطنه فقط وأن يتعصب له تعصبا مطلقا ويريد الداعون إليها بها أن تحل محل الإسلام إلى جانب القومية ومضيفة إليها بعدا جديدا في التفلت من رابطة الدين والأخوة الإسلامية والاكتفاء بالوطنية وكلتاهما تصب في مجرى واحد وإن اختلفت التسمية. ذلك أن القومية هي التعصب للقوم ويدخل فيها التعصب للوطن. ومن هنا نجد أن القومية والوطنية يمد بعضها بعضا لتكونا معا رافدا من روافد الجاهلية والنفرة عن الدين.

فالوطنية إذن دعوة براقة تستثير في النفوس عاطفة حب الوطن في البدايات الأولى وفي نهايتها يراد بها الانسلاخ من رابطة الدين والاكتفاء بها في كل وطن له حدود جغرافية وموالاة أهله على حبه بغض النظر عن أي اعتبار.                                                                                                ومن هنا يجب علينا تذكر جملة من الأصول العقدية لتكييف الوطنية شرعا ومن ثم بيان حكمها في شريعتنا السمحة الغراء خاصة وفهم المراد بولاء المسلم لوطنه وانتمائه إليه وهي كما يلي: – 

 أولا: للمسلم وطنان يرتبط بقلبه الحي المستنير بالوحي معهما ومن ثم ينتمي إليهما، وطن في الدنيا ووطن في الآخرة وهما مختلفان أحدهما أصلى دائم الحياة فيه خالدة وهو وطن الدار الآخرة وهو الجنة التي أعدها الله لعباده الصالحين جعلنا الله منهم أجمعين فهذا الوطن دار جزاء والوطن الثاني مؤقت الحياة فيه لها أجل محدود تنتهي بانتهائه وهو دار الدنيا وهذا الوطن دار ابتلاء وغربة.

 وقد فطر الله النفوس السوية على الولاء  للوطنين كليهما , كل على قدر البقاء فيه  فنرى ولاء سليم الفطرة للجنة وهى الوطن الخالد هو الأصل وولاءه للحياة الدنيا حيث يوجد وطنه الثاني هو الفرع التابع لانتمائه إلى الجنة وفى ذلك قال الله تعالى فى سورة الأنعام (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )

وقال تعالى فى سورة يونس  (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ  وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وقال تعالى فى سورة الكهف  (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) وقال تعالى فى سورة الحديد(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)

ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله ابن عمر رضي الله عنهما فى الحديث الصحيح (كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وقوله  صلى الله عليه وسلم في وصف الدنيا – كما ثبت عنه – (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) وقوله (إنما مثلى والدنيا كراكب استظل في ظل شجرة ثم قام فتركها) .

ثانيا: طريق العودة إلى وطن السعادة الأبدية والنعيم الخالد هو تحقيق دين الله الإسلام في الحياة الدنيا كمنهج حياة وذلك بعبادة الله وحده بما شرع في رسالات رسله وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم بمعنى أن تكون الحياة كلها لله وعلى مراده كما أمر بإتباع رسول الله، كما قال تعالى في سورة يونس (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) فدار السلام هي الجنة والصراط المستقيم  هو الاسلام عقيدة وشريعة .

وقال الله في سورة الأنعام ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)  ومن هنا كانت قاعدة الإسلام  التي ينطلق منها منهجه وشريعته  الشهادة واليقين بكلمتي التوحيد (لا الاه إلا الله – محمد رسول الله ) ومن مقتضياتها الرئيسية إفراد الله بالمحبة ورسوله بالإتباع .

 ثالثا : بهذه الشهادتين جعل الله رابطة العقيدة  وأخوة الإسلام  أساس ارتباط المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ببعضهم البعض ووطنهم في هذه الحياة الدنيا كما قال تعالى (إنما المؤمنون أخوة ) وقال الله سبحانه ( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض  يأمرون  بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله  ان الله غفور رحيم ) وبالحديث الصحيح  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ) وقوله (المسلم أخو المسلم  ) وعلى هذا الأساس وقاعدة الشهادة بكلمتي التوحيد كانت وحدة المسلمين عبر تاريخهم أمة واحدة كما قال تعالى  (ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) وقال تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

 ومن هنا كان وطن المسلم  في حياته الدنيا – وان كان دار غربة مؤقتة – كبيرا يوجد بالأرض حيث يوجد الإسلام والمسلمين يحتوى في سعته أوطان أصغر وهى البلاد الإسلامية، ولما كانت النفوس مفطورة على محبة الأوطان المتنوعة والأصغر داخل هذا الوطن الكبير المؤقت فمن الطبيعي محبة المصري لمصر والسوري لسوريا والعراقي للعراق والفلسطيني لفلسطين واليمنى لليمن وهكذا دونما تعصب وعقد الولاء والبراء على أساسه , ولكن كجزء من كل , بمعنى أن أحب كمصري  مصر أكثر من غيرها وانتمى إليها  ولكن كجزء لاينفك عن الأمة الإسلامية  فأنتمي إليها على قدر انتمائها للإسلام ومن ثم للأمة الإسلامية وهكذا غيري من أبناء تلك البلاد بدليل أننا جميعا نحب مكة والمدينة من السعودية والقدس من فلسطين أكثر من بلادنا لماذا ؟. وهذه هي الوطنية التي يقرها ديننا العظيم وهى الوطنية الإسلامية المقصودة بالمقال وهى وطنية موحدة للأمة وليست مفرقة لها كحال الوطنية الجاهلية وانظر بتأمل في كتاب الله عز وجل هل تجد آية خاطب الله فيها قوما أو وطنا أو جنسا على جنس بطريقة التعصب الذي نراه على لسان دعاة القومية أو الوطنية الجاهلية أو تجد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك؟

 كلا. بل ستجد قول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) تلك الآية التي نزلت عندما تنادى مسلمون في شجار بينهم  باسم قبيلتهم فغضب رسول الله وقال دعوها فإنها منتنة أي العصبية لغير الإسلام ,  وستجد أيضا في كتاب الله 🙁 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).

وكانت هذه الوحدة الربانية للأمة دائما عقبة أمام أعداء الأمة  فعمدوا بخبث – كما سبقت الإشارة  بالمقال السابق –  مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه  إلى إضعاف هذه الوحدة  من خلال إحياء العصبيات الجاهلية بين أبناء العالم الاسلامى فكانت الدعوة إلى القومية  وتولدت منها الدعوة إلى الوطنية الجاهلية وأسقطوا خلافة الأمة الدولة العثمانية بأيدي أبنائها من العرب!فاحتلوا فلسطين , وتفرقت الأمة شيعا وبلادا متناحرة صار بعضها عونا لأعداء الأمة على بعضها الآخر كما هو مشاهد في أيامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله . 

رابعا :  الانتماء والولاء الصادق للوطن سواء كان كبيرا وأعنى به الأمة أو صغيرا محدودا وأعنى به القطر الواحد من أقطار العالم الاسلامى ليس شعارا يرفعه البعض خداعا ومزايدة , بل يتمثل بالعمل الجاد المتواصل والتضحية ببذل الجهد للتمكين لدين الله عقيدة وشريعة في حياة الناس بهذا الوطن  وذلك هو أقرب وأيسر السبل لضمان عزه سعادة أهله وتحقيق كرامتهم في الحياة الدنيا القصيرة الفانية والدار الآخرة الباقية الخالدة وهذا هو قانون الله وسنته الثابتة فى الخلق، فقال تعالى فى سورة طه ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

والمعنى التطبيقي لذلك هو عمل جميع الوطنيين نحو تكوين دولة قوية بوطننا الحبيب تتمثل فى سلطة حاكمة يختارها الشعب بكامل إرادته وتعبر عن هويته تعمل في الأساس على إقامة الدين في حياة الناس  وحمايته وتطبيق شريعته ولا مانع من تقسيم هذه السلطة – لمواكبة التطور المعاصر-  وتوزيع مهماتها كدولة حديثة معاصرة الى سلطات ثلاث مستقلة وقوية (تشريعية وتنفيذية وقضائية ) ولا يخفى على أولى الألباب أن لهذا العمل المبارك كدلالة عملية على الانتماء الصادق للوطن تفصيل فى غير هذا الموضع يجده بتوفيق من الله مريده.

وهنا أكتفي بما ذكر ومن الله الهدى والسداد وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحابته وسلم تسلما كثيرا.

Scroll to Top