الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى والصلاة والسلام على خير الورى نبي الهدى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتدى فاهتدى جعلنا الله بفضله منهم أما بعد : فان صحة الأبدان نعمة من الله عظيمة تستوجب علينا شكره سبحانه بالقول والعمل كما روى البخارىُّ في “صحيحه” من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ”.وفى سنن”الترمذي” وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصاري، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَن أصْبَحَ مُعَافىً فى جَسَدِهِ، آمناً فى سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا”.
أولا : ان المرض نوعان: مرضُ القلوب، ومرضُ الأبدان.كما قال ابن القيم رحمه الله : وهما مذكوران فى القرآن.
ومرض القلوب نوعان : مرض شُبهة وشك، ومرض شَهْوة وغَىٍّ، وكلاهما فى القرآن. قال تعالى فى مرض الشُّبهة: {فِى قُلُوبِهِم مََّّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وقال تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً- وأما مرض الشهوات، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ، إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى في قَلْبِهِ مَرَضٌ} فهذا مرض شَهْوة الزنا.. وأمّا أمراض الأبدان فهي أيضا نوعان معدية وغير معدية ومن المعلوم أن قواعد طِب الأبدان ثلاثة: حِفظُ الصحة، والحِميةُ عن المؤذى، واستفراغُ المواد الفاسدة. فأمَّا طبُّ القلوب.. فمسلَّم إلى الرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم وعلى أيديهم، فإن صلاحَ القلوب فى عبادة الله وحده بما يريد وشرع على يدي رسوله صلى الله عليه وسلم , ولا صحة لها ولا حياةَ البتة إلا باتباع هديه .
ثانيا : ليعلم أن المرض البدنى – سواء كان معديا كوباء الكوليرا والكورونا مثلا أو غير المعدى – من قدر الله مؤلم نعم ولكنه خير للمؤمن فى الأساس خاصة عند الصبر عليه والرضا بقدر الله تعالى فيه وفى ذلك قال البخاري رحمه الله حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»
وروى بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ) –
وروى البخاري رحمه الله عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» وروى بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ قَالَ: «أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ» قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا اذن فهو خير مع الصبر الجميل يسره الله الرحيم بنا علينا.
ثالثا-وليعلم انه بالصبر على قدر الله يكون هذا الشفاء القلبي ولكن مع واجب شرعي آخرهو أيضا من قدر الله ألا وهو التداوى فيجب على المسلم الأخذ بالأسباب عموما ومن ذلك التداوى للمرض سواء كان فى الأبدان أو فى القلوب وفى ذلك روى الإمام البخاري رحمه الله بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً- وروى مسلم فى “صحيحه”: من حديث أبى الزُّبَيْر، عن جابر بن عبد الله، عن النبىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ” لِكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، برأ بإذن اللهِ عَزَّ وجَلَّ”. قال ابن القيم : ويجوزُ أن يكون قوله”لكل داءٍ دواء”، على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التي لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طوي عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء وفى الأحاديث الصحيحةِ الأمرُ بالتداوى، وأنه لا يُنَافى التوكل، كما لا يُنافيه دفْع داء الجوع، والعطش، والحرّ، والبرد بِأضدادها، بل لا تتم حقيقةُ التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نَصَبها الله مقتضياتٍ لمسبَّبَاتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقَدَحُ فى نفس التوكل، كما يَقْدَحُ فى الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن مُعطِّلُها أنَّ تركها أقوى فى التوكل فلا يجعل العبدُ عجزه توكلاً، ولا توكُّلَه عجزاً ا ه. ولكن ماذا نصنع مع الأمراض المعدية (الأوبئة البدنية والخلقية )؟
رابعا : نعم أخوة الإسلام فالحمية هى إحدى قواعد الطب الثلاثة وقد أمرنا بها قدوتنا وقرة أعيننا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبرنا بذلك الأمر أربعة من الصحابة منهم ثلاثة من المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم ,فقد روى البخاري رحمه الله بسنده عن إبراهيم بن سعد بن أبى وقاص عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ،عن سعد رضي الله عنه أن ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» وروى أيضا رحمه الله بسنده عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ إِلَى الشام، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ، أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشام. فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشام، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُوعُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ – وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ – فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَف- اذن انه الحجر الصحي النبوي واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة بالفعل للوقاية من الوباء وانتشاره وهذا فى حد ذاته طيب ولكن المستغرب اهتمام الدنيا بهذا الأمر تجاه الأوبئة البدنية وإغفال ذلك فى حالة الأوبئة القلبية الخلقية والجميع يعرفها وأماكنها بل نجد من يتبنى المحافظة على بقائها بالمجتمع والعمل بجهد دءوب على انتشارها مع أنها قطعا من أبرز أسباب انتشار الوباء البدني كما قال تعالى (ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله سميع عليم )
وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الوباء عموما فقال (عذاب نزل على من كان قبلكم أما لكم فيذهب مرة ويأتي مرة فالوباء رجز (عذاب ) على الكافرين والظالمين ورحمة بالمؤمنين
وانظروا الى ما رواه البخاري رحمه الله بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» وروى رحمه الله بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ“
وهذه الغفلة المتعمدة عن مقاومة الأوبئة القلبية الخلقية وإجراءات الحمية منها طبيعية غير مستغربة من دول ومجتمعات لاتؤمن بالله واليوم الآخر من الأساس وإنما تؤمن بالدنيا فحسب ولكن المستغرب فعلا والمستهجن حقا بل والعار أن يكون هذا الإغفال ممن يعلنون الإيمان بالله ومنهجه للحياة الإنسانية بالمجتمعات الإسلامية فيفرض مثلا! على الكباريهات والمقاهي وغيرها من بيوت الشياطين إغلاق أبوابها من الساعة 7م حتى 6ص ! وماذا بعد ؟ ! أيها المسلمون : من مقاصدالإسلام حفظ الصحة عامة بدنية وقلبية ومن ثم وجب التداوى للأمراض بنوعيها القلبية والبدنية وأخيرا الحمية من الأوبئة القلبية الخلقية والبدنية معا بوسائل الوقاية بمنظومة تقوية التدين التى يهتم بها أولو الألباب فى كل ناحية وفقهم الله ووقاهم شرور مقاومي التدين وأشياعهم وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته وسلم .