الحمد لله رب العالمين ولى المتقين قال عن تآلفهم ومودتهم في دار الخلود والبقاء بعد ما كانت بينهم في دار الغرور والفناء (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيده الله تعالى بنصره وبوحدة قلوب المؤمنين كما قال تعالى (وان يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين. وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم ) ومن ثم فقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين فى أحاديث عديد بالمحافظة على هذه المنة الربانية منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه (وكونوا عباد الله إخوانا ) أما بعد
أخوة الإيمان , أحبتي في الله : من المعلوم من عقيدتنا بالضرورة أن محبة الله تعالى هي روح عبوديتنا الواجبة له سبحانه ومن لوازم هذا المحبة المتعينة الحب في الله والبغض فيه كما ثبت عن قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم قوله (من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) وان كان من طبيعة الأرواح كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم التآلف والاختلاف وذلك فى قوله (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) فما ظننا بأرواح اتفقت على محبة الجليل العظيم الغفور الودود سبحانه ؟! ومن هنا فلا وجه للاستغراب من عنوان المقال (عقيدة الولاء والبراء) فالحب في الله والبغض في الله من خصائص الإيمان البارزة وشواهد تحقيقه فى القلوب الظاهرة والمقتضى الأبرز لمحبة الله.
وقضية الولاء والبراء من أوضح القضايا الواردة في القرآن الكريم، قال تعالى في آيات أربع بسورة القمر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدك) فلنتدبر معا أخي القارئ أختي القارئة أيضا فى أربعة مواضع فى كتاب الله الكريم كأظهر الآيات.
أولا: قال الله تعالى فى سورة آل عمران قال الله تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29).
ثانيا : في سبع آيات متتاليات بسورة المائدة قال تعالى عن هذه القضية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) .
ثالثا : قال تعالى في سورة التوبة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
رابعا : قال تعالى فى خاتمة سورة المجادلة (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
فالولاء والبراء مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام ومن مقتضيات (لا إله إلا الله)، فلا يصح إيمان أحد إلا إذا والى أولياء الله، وعادى أعداء الله. ومعتقد الولاء والبراء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد، هما:
الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء، وضِدُّهما في البراء. فالولاء شرعاً، هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين. والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة: كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه. هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام ، فهو معتقدٌ قلبيٌّ ، لابُدّ من ظهور أثره على الجوارح ، كباقي العقائد ، التي لا يصح تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِها .إذن للولاء والبراء ركنان هما : الحب والنصرة في الولاء ، والبغض والعداوة في البراء ،ويراد بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة ، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله .ونجد الخلل بتلك القضية فى واقع الأمة على ضربين من الناس بينهما فرق في الحكم الشرعي الأول: من يتولى الكافرين قلبيا للدين فنجده يدافع عن الكفار،ويساعدهم بالمال والبدن والرأي لأجل دينهم وهذا كفر صريح يُخرج من الملة الإسلامية .
أما الثاني: فيتولي أعداء الدين لأجل الدنيا فيدافع عن الكفار ويساعدهم بالمال والبدن والرأي لأجل غرض دنيوي مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام باستثناء التقية والإكراه طبعاً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الشأن قال الله تعالى في بداية سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) إلى قوله (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فمثل هذا الفعل يُعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، ويُخشى على صاحبه الكفر فالقلب سريع التقلب ومجاور الحداد يناله الأذى من نار صنعته، علماً بأن حاطب رضي الله عنه الذي أنزلت الآيات في حقه له اعتبارات خاصة، مثل كونه من أهل بدر، وسبقه إلى الإسلام، وسلامة قصده، ولذلك فقد عفا الله عنه.
ومن الأهمية بمكان فى هذا المقام التنبيه على أن مناط التكفير في الولاء والبراء هو على عمل القلب لا على آثاره وثمراته فإذا اجتمعا حكم به وإذا اختلفا فالحكم لعمل القلب دون عمل الجوارح .وكثيرا ما يغلب الهوى فيقنع صاحبه أن مايقوم به من معاداة أولياء الله وتولى أعدائه لمصلحة الوطن ومن ثم الإسلام والمسلمين دونما تمحيص للحقيقة بشئ من الموضوعية ومآله إلى العطب في الدنيا فى مجرم فى ظاهر مسلكه في نظر المؤمنين وأمره إلى الله في الآخرة وتتضح عقيدة الولاء والبراء هذه فى العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع , كما قال سيد الخلق وحبيب الحق صلوات ربى وتسليماته عليه فيما صح عنه (مثل المؤمنين فى توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) وقال (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ونعلم أن لبنة الحائط لا قيمة لها ولا سلامة الا وهى بالحائط بين أخواتها وقد وصف الله المؤمنين مع بعضهم فى سورة التوبة فقال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وقول الحق سبحانه وتعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } لم يبين لنا من المولى ومن الموَالي ، فكل مؤمن وهو ولي وهو موال؛ فالموالاة ضدها العداوة .
وفائدة القرب أن يكون الولي نصير أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه حيث يشد أزره ويقويه ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر * إِنَّ الإنسان لفي خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} ولو قيل: «وصَّوْا» لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال: {وَتَوَاصَوْاْ} ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن . وهذا السلوك مع الآخر لا نجده بين المنافقين حيث قال الله في شأنهم بنفس السورة الكريمة (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)) لم نجد وصف أولياء مثل حال المؤمنين.
والمتأمل في منحنى العزة والكرامة التاريخي للأمة يجده صعودا وهبوطا بناءا على تحقيق هذه العقيدة (الولاء والبراء). فقد توقفت الفتوحات الإسلامية لخير قرن وجيل منها بعد استشهاد ذي النورين سيدنا عثمان رضى الله عنه ولم تستأنف من جديد الا بعد عام الجماعة سنة 40ه في عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه. وبعد موته توقفت تماما واستؤنفت بعد استقرار الأمر لعبد الملك بن مروان-رحمه الله – بعد استشهاد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وصفحات تاريخ الأمة تخبرنا بمزيد من الآمال والآلام معا! ولك أن تتساءل وأنت تطالع فيها لماذا انتصر المسلمون فى معركة الذلاقة بالأندلس على الصليبيين في منتصف القرن الخامس الهجري ولماذا سقطت آخر معاقلها وأعنى بها غرناطة فى أيدي الصليبيين في أوائل القرن التاسع؟ لماذا انتصرت الأمة في حطين فى نهاية القرن السادس الهجري وحررت المسجد الأقصى ولماذا سقطت بغداد والخلافة العباسية وغرقت بمذابح هولاكو في منتصف القرن السابع الهجري؟ لماذا سقطت الخلافة العثمانية وسقطت الجيوش العربية في حرب 48 ومن ثم ضاعت من الأمة فلسطين؟ لماذا هذه النشوة التي نراها على وجوه ونسمعها من أفواه صهاينة الأيام؟ نعم أيها المسلم الحبيب تجيبك صفحات تاريخ أمتك على تساؤلاتك. وأخيرا أتساءل معك وقد قاربت أيام الاعتداء الصهيوصليبى الحاقد على المجاهدين والصامدين على أرض قطاع غزة خاصة وفلسطين الحبيبة عامة المئة وخمسين يوما من الوحشية والهمجية المتواصلة والدول الاسلامية حولها من حكامها لا يحركون ساكنا سوى أمام الميكروفونات! فهل هناك من أمل؟
أخوة الإيمان: نعم بمشيئة الله مع الأجل، ولكن بالعمل نحو ما أمرنا الله به من الإيمان العميق والترابط الإيماني الوثيق ومن ثم الوحدة المنشودة اللازمة المطلوبة وما ذلك على الله بعزيز.
فاللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفنا واجمع على الحق كلمتنا ونجنا من أنفسنا وعدونا، وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى وصحبه وسلم تسليما.