الحمد لله رب العالمين ولى المتقين المحبين والصلاة والسلام على سيد المرسلين ورحمة الله للعالمين وعلى آله الطيبين وصحابته البررة المتقين ومن دعا بدعوته وحمل رسالته الى يوم الدين أما بعد .
أخوة الإيمان: هل هناك أولى من الله سبحانه بالمحبة؟ سؤال – تقريري وليس استفهاميا- يطرحه على أنفسهم أولو الفطر المستقيمة نعم فالله عظيم لا منتهى لعظمته بارئ قدير مدبر لخلقه عليم حكيم غنى بذاته عن الناس جميعا برحمته سبحانه أرسل إليهم صفوته منهم ليبلغوهم مراده منهم في هذه الحياة الدنيا القصيرة ليعودوا إليه سعداء, وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه ومع ذلك كانت منهم المخالفات المتنوعة لأوامره فيخبرهم أنه يتوب على من تاب واليه أناب وان بلغت ذنوبه عنان السماء !فما أعظمه من رب غنى كريم حليم رحيم لطيف خبير غفور ودود وتأملوا قوله سبحانه في سورة النساء قال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }قال ابن عباس : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وَسَعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرًا { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
وقال تعالى في سورة الأنعام ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وقوله: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي: فأكرمهم برد السلام عليهم، وبَشَّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم؛ بقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي: أوجبها على نفسه الكريمة، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف: كل من عصى الله، فهو جاهل. {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} أي: رجع عما كان عليه من المعاصي، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وروى الإمام أحمد رحمه الله بسنده عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لما قَضَى الله الخَلْقَ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي”. أخرجاه في الصحيحين – وقال تعالى في سورة الأعراف { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ – ولنتأمل في قوله تعالى من سورة الشورى ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) أحبتي في الله : نعم فمحبة الله الكاملة المطلقة هي روح العبادة حيث تقوم أي عبادة من العبادات على دعامتين أساسيتين هما الحب والطاعة فعبادة الله فى حقيقتها هي طاعته عن محبة له سبحانه والأصل أن تؤدى اى عبادة لله براحة نفسية وسرور داخلي ومن هذا قول سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم (يا بلال أرحنا بالصلاة )وكما قيل مقولة صدق :جنة المؤمن فى محرابه ) والشواهد على تلك الحقيقة من الأحوال والأقوال بالعشرات ولكن السؤال الثلاثي الذى نطرحه فيما بيننا الآن ( ان كان الأمر كذلك وهو حق – فالله ربنا وحده الجدير بتلك العبادة الشاملة بدعامتيها ونحن بالفعل نحب الله حقا – فلماذا لا يشعر أحدنا في أثناء آداءه لعبادات عديدة ومنها الصلاة مثلا بهذا الشعور الجميل وأعنى به الحب حيث نؤديها فى الأغلب برتابة قد تؤدى بنا إلى الملل منها معاذ الله ؟ وهل هي مقبولة حينئذ؟ وما الحل لهذه المشكلة؟ وهي بالفعل أخوة الإيمان مشكلة، ولكنها بفضل الله ورحمته لها حل فليست معضلة. ويتوقف الحل على معرفة أصل الداء فالروتينية والرتابة في أداء الصلاة – التي نشكو منها مثلا ليست أصل الداء، ولكنها عرضه فان عالجنا أساسه ذهب عرضه ان شاء الله
فما هو أصل الداء إذن؟
إنها النفس يا أخوة ذلك العدو الداخلي البالغ فى خطورته ان ترك لحاله بلا مجاهدة ومعه بلا ريب الشيطان كعدو خارجي لا تخفى وسائل عداوته وأيضا وسائل دفعه. إذن الحل بين أيدينا ليس بيننا وبينه إلا الاستعانة بالله للنجاة من شرها ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد ثبت عنه قوله (ونعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا الاه إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ) والعمل بما أمر الله به من مجاهدتها كما في قوله تعالى في نهاية, سورة الحج ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) وسورة العنكبوت (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ) وقول رسوله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ( والمجاهد من جاهد نفسه فى الله ) وروى فى طاعة الله ) وتكون مجاهدتها بمعصيتها فيما تدعوا إليه مما تهواه في غير طاعة الله ونهيها عن ذلك كما وصف الله حال السعداء في الآخرة بقوله تعالى في آخر سورة النازعات : فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
ومن هذه المجاهدة اللازمة للنفس قسرها على العبادة, وتأملوا أخوة الاسلام في وصية لقمان الحكيم لابنه: يا بني لا تنتفع بالإيمان إلا بالعمل، فإن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس حرون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فلم ينتفع سائقها، فإذا اجتمع ذلك استقامت طوعا وكرها، ولا يستقيم الدين إلا بالتطوع والكره، إن كان الإنسان كلما كره من الدين شيئا تركه، أوشك أن لا يبقي معه شيء من دين الله عز وجل، فلا تقنع لنفسك بقليل من الإيمان، ولا تقنع لها بضعيف من العمل، ولا ننسى أحبتي في الله قول رسول الله (الصبر نصف الإيمان ) ومن المعلوم أنه من الصبر, الصبر على طاعة الله أليس كذلك وقد أمر الله الآباء بهذا المنهج في التعامل مع العبادات في تربية الأبناء فقال تعالى فى سورة التحريم : (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وقودها الناس والحجارة الآية ) قال ابن عباس فيها : اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومُروا أهليكم بالذكر، ينجيكم الله من النار.) ونتساءل هنا هذا لماذا كانت العقوبة بضوابطها وفى وقتها المناسب وسيلة من وسائل التربية؟ ورأينا بقلوبنا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم فى تربية الأبناء كما جاء فى صحيحي سنن أبى داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما أن النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين و اضربوهم عليها و هم أبناء عشر سنين و فرقوا بينهم في المضاجع.) لنقف أمام هذا الحديث الثابت برهة ونسأل أنفسنا: لما الضرب عليها وقبل سن التكليف غالبا؟ أليس هذا من قسر النفس وَها هو قول الفاروق رضى الله عنه: اقذعوا هَذِهِ النُّفُوسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا فَإِنَّهَا طلاعه تَنْزِعُ إلَى شَرِّ غَايَةٍ. إنَّ هَذَا الْحَقَّ ثَقِيلٌ وَإِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَتَرْكُ الْخَطِيئَةِ خَيْرٌ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ ) معبر بوضوح عن المقصد ومن وسائل ترويض النفس المعروفة فى ميدان التربية -فطم النفس عن المألوفات كما قيل : والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .ونحن كمسلمين- والحمد لله على نعمة الإسلام لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛فعندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها والأمر فى ذلك علينا يسير فعندنا في الدين عبادات تساعد النفس على ترك المألوفات فتنفطم النفس مثل الصيام والحج والجهاد فى سبيل الله ، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام.
ولا ننسى فضل الله الكريم المنان فمن تعهد نفسه بالمجاهدة صارت صديقته وداعيته إلى الخير وما يحبه الله لقول الله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ) ولنبدأ بعزيمة وإرادة صادقة فثم فضل الله وعطاؤه , قال تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) وفى قوله صلى الله عليه وسلم ( يابلال أرحنا بالصلاة ) شاهد حي , وقد جرب ذلك الصالحون حيث قال قائلهم : والله انى لتمر بي أوقات أقول في نفسى لو أن أهل الجنة فى مثل ما أنا فيه الآن إنهم لفي حياة طيبة . كذلك من وسائل ترويض النفس العظيمة إدراك إقبالها وإدبارها وكما نعلم من عقيدتنا فى الإيمان انه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فتلتمس إقبالها للزيادة من الطاعات، وإدبارها لإلزامها بالواجبات والامتناع عن المحرمات.
قال عمر رضي الله عنه: [إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإذا أدبرت فألزموها بالفرائض] أقل شيء إذا انحدرت ألا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شره ولكل شره فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فالنفس لا تستطيع أن تستمر على حالة واحدة: فمن كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يعمل محرماً فقد اهتدى. ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، وفى خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن عمرو كما جاء في الحديث الصحيح بيان لتلك الوسيلة في سياسة النفس. ومن وسائل ترويض النفس منعها عن صغائر الذنوب -ومن الوسائل العظيمة في ترويض النفس إصلاح الخواطر، وسبيله الأساس الإيمان على الحقيقة بان الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى،يعلم الكلام الذي في نفسك، والخواطر التي في عقلك وذهنك وقلبك، والشيء الذي لم يخطر بعد أو أنه سيخطر.
فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وفيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، ملك السماوات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها إلا الله وهنا يأتي لردع النفس بداية الحياء من الجليل سبحانه وهو الرقيب الغفور الودود والله الموفق والهادي الى سواء السبيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.