الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المفلحين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد:
فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته، وصار طوعاً لها تحت أوامرها، ومن ثم أهلكته كما أخبر خالقها سبحانه وتعالى وقسمٌ ظفروا بنفوسهم فقهروها بإذن الله بعد مجاهدتها كما أمر فصارت طوعاً لهم، منقادة لأوامرهم وهدى الله تعالى.
فقال تعالى في سورة الشمس (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) وقال تعالى فى سورة النازعات (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) ).
ولتوضيح الأمر لكل إنسان مسلم أقول : من المعلوم بالضرورة من ديننا العظيم أن الله تعالى خلق الإنسان من جزأين متكاملين هما الجسد والروح كما قال تعالى في سورة الحجر(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) وقال تعالى في سورة ص (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72)
فَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ تعالى أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وكلف الملك الموكل بها بنفخها بالبدن لتكون نورا له وتجعل منه إنسانا مكرما بأمر الله له قيمته يتلك الروح ولا عجب فالروح خلقت من نور ونفخها فيه ملك خلق من نور.
وفى حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين شاهد فقد روى الشيخان بسنديهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَمَلِهِ وَأَجَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، الحديث » فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْهَا يَكُونُ فِي طَوْرٍ، فَيَكُونُ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى نُطْفَةً، ثُمَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةِ عَلَقَةً، ثُمَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، مُضْغَةً ثُمَّ بَعْدَ الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا يَنْفُخُ الْمَلَكُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيَكْتُبُ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَ الْكَلِمَاتِ بإذن الله تعالى .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ تَقَلُّبَ الْجَنِينِ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في بداية سورة الحج : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}وقَالَ تعالى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ – ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ – ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} –
ويستفاد من الحديث أن المضغة عندما تنفخ فيها الروح تصير إنسانا نسميه في هذه المرحلة جنينا ينميه البارئ جل وعلا بالتغذية المناسبة في رحم أمه حتى يكتمل طفلا فيولد على الفطرة يعرف ربه ويحبه فتتغذى روحه على تلك المعرفة والمحبة لله كما يتغذى جسده على لبن أمه رضاعة ويظل على فطرة الإسلام – نوع واحد إنسانا مسلما – تلك ما لم يتدخل الغير سواء كان أب أو أم أو غيرهما بإفسادها ظلما وتغييرها وفى ذلك يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (يولد المولود على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) حتى إذا ميز هذا المولود على الفطرة ونجا بإذن الله تعالى من تغيير فطرته -وتغذية عقله بالباطل والبهتان عن ذات الله ودينه – وبلغ اشتاقت روحه إلى مزيد معرفة بالله تعالى وهنا نستشعر معا أهمية الدعوة الى الله وتبليغ منهجه تعالى ومهمة الرسول وأتباعه ومن ثم يكون توحيد الله في عبادته بالامتثال لأمره ومحبته وهذا هو الإنسان المسلم صاحب الروح الطيبة والنفس مطمئنة يملكها وتعينه على مرضات ربه. أما إذا اختار هذا الإنسان – الذي بلغ سن التكليف – بإرادته الاعراض عن هدى الله ومن ثم الانقياد لنفسه ووسوسة الشيطان وهواه فتظلم روحه وتبقى خبيثة ما لم تتداركها رحمة الله بتوبة نصوح قبل الموت.
وانظر معي أيها الإنسان الطيب الى وصف الله تعالى لهذا الإنسان الآخر فقال تعالى في سورة الفرقان (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) وقال تعالى في سورة الجاثية (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
ومن هنا يزول عجبنا واستغرابنا لتناقض الكافرين في نظرتهم للقيم الإنسانية فهي عندهم مادية انتقائية مصونة بينهم وغير معتبرة بالمرة لغيرهم وأمام أعين الجميع مايحدث للفلسطينيين على يد المحتل الصهيوني لأرضهم فدولهم يقروا بذلك الاحتلال وتجرمه قوانينهم ومع ذلك يقولون بحق المحتل المعتدى في الدفاع عن نفسه وأن مقامة المغتصب والمحتل إرهاب ! ولا يغيب عنك أيها الإنسان الرباني أن تشخيص الداء الواقع دون وصف الدواء والتوجيه بأخذه لا يليق بعقلاء، إذن ما هو السبيل نحو الإنسانية الربانية التي أرادها الله تعالى بداية بخلق الإنسان ؟ نعم لابد من تغذية هذا الإنسان بدين الله فكيف تكون ؟.
أيها الإنسان المسلم المتوازن في حياته لما كانت التغذية اللازمة من أظهر صور الحياة كإحدى الوظائف الحيوية للكائن الحي كما يسميها علماء الأحياء فلابد يا أخوة الإسلام من التغذية اللازمة لكل من البدن والروح للتوازن المطلوب والاستقامة الواجبة في حياتنا.
ومن هنا كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التوازن فنراه صلى الله عليه وآله وسلم يوجه إلى الاقتصاد في الطاعة للاستقامة عليها وعدم إهمال متطلبات البدن بالنفس البشرية كما روى الشيخان رحمهما الله وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أنا فاصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ومن أجل تغذية البدن وجه الله تعالى بنى آدم الى الطعام والشراب من غير إسراف كأول ضابط رباني فقال تعالى فى سورة الأعراف ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) وأرشد سبحانه إلى الضابط الثاني وأعنى به تحرى الحلال الطيب من طعام البدن حتى لا تؤذى الروح شطر الإنسان الثاني فقال تعالى في سورة البقرة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) وقال تعالى فيها أيضا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» هكذا نرى أنه لابد من قيادة الروح للبدن فتراعى ضوابط الشريعة في الطعام والشراب مراعاة تامة وحينئذ فقد تكون في التغذية البدنية تلك تغذية للروح مع البدن كما نرى ذلك عمليا في مراعاة المسلم والمسلمة آداب وأذكار الطعام والشراب المعلومة في أوله وآخره أليس كذلك؟ أما بالنسبة إلى غذاء الروح الخالص فمن أجله كانت الشعائر التعبدية عامة وخاصة الصلاة منها كما قال تعالى فى سورة طه (وأقم الصلاة لذكرى) والله المستعان وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد خير إنسان وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.